النقد البناء (2)

ذكرت في المقال السابق أن بين العمل والنقد وبين الإنجاز والتطوير علاقة جدليّة، وشرحت ما أعنيه بالعلاقة الجدليّة، ووعدت باستكمال الموضوع في هذا المقال.
إن النظر إلى ما أقمناه وأنجزناه من مناهج ومؤسسات على أنه شيء غير مكتمل يشكل المحرّض لنا على نقده وتطويره، لكن يبدو أن الإنسان لا يملك من اليقظة النقدية ما يجعله يتعامل مع إنجازاته ومنتجاته دائماً على هذا النحو. إننا كثيراً ما ننظر إلى نقد شيء يتصل بنا على أنه نقد لذواتنا، بل ننظر إليه –أحياناً- على أنه يمس الكرامة الشخصية للواحد منا.

أحياناً لا نقبل بالنقد؛ لأنه سيجعلنا نخسر بعض المكاسب التي حصلنا عليها من وراء أوضاع مغشوشة، وأحياناً نرفض النقد؛ لأننا لا نثق بالذي ينقد، أو لا نرتاح إليه. وأحياناً نرفض النقد؛ لأن قبوله سيعني التغيير والتطوير، وهذا لا يتم من غير بذل جهد، ونحن غير مستعدين للقيام بأي شيء إضافي.
بعض الناس يرفض النقد؛ لأن لديه نوعاً من الإعجاب بالذات والاستبداد بالرأي، وهذا يجعله يستخفّ بما يسمعه من الآخرين…
مهما يكن السبب الدافع إلى مقاومة النقد فإن النتائج ستكون وخيمة.
إن أي عمل حتى يُؤدّى بطريقة صحيحة يحتاج إلى معرفة تامة بالبيئة المحيطة والعوامل الجغرافية والاجتماعية المؤثرة. وإن هذه المعرفة نحصل عليها في العادة على سبيل التدرج. ومن ثم فإن الثقة المبالغ فيها في منجزاتنا تقوم على عدم الاكتراث بخطورة ما نجهل.

وعلى مدار التاريخ كان الناس يدركون قيمة ما يعرفون أكثر من إدراكهم للأضرار البالغة التي تترتب على ما لا يعرفون. ورفض النقد هو رفض للمعرفة الجديدة.
إن قبولنا لمقترحات الآخرين والسماح لهم ببيان وجوه القصور لدينا، يجعلنا نظهر بمظهر الضعيف أو غير الناضج. أما الاستبداد بالرأي والتمسك بالسائد إلى آخر لحظة فإنه يجعلنا نبدو أقوياء صامدين كأشجار السنديان التي قاومت العواصف مئات السنين.

والحقيقة أن قبول النقد يمنحنا القوة؛ لأنه يساعدنا على عمل شيء قبل حدوث الانهيار. إنه يفتح سبيلاً للكف عن السير في نفق مظلم، في آخره مهلكة.
إن سقوط الاتحاد السوفيتي بتلك الصورة المريعة والمهينة ومن غير سابق إنذار، يقدم حكمة بليغة للمستبدين بآرائهم الرافضين للإصلاح والتجديد، والمستخفين بنصائح أهل البصيرة الثاقبة.

تقول تلك الحكمة : إن كل الأشجار تموت واقفة شامخة؛ لأن موتها لا يكون في سقوطها على الأرض، ولكن في انقطاع مادة الحياة عنها، وفي عجزها عن التكيّف مع الظروف المحيطة بها، وإن رفض النقد هو رفض للتكيّف، ورفض للاستدراك على الخطأ والتقصير، وهذا ما يجعل السير في طريق الاضمحلال أمراً لا بد منه!
الوجه الثاني للمشكلة يكمن في ممارسة النقد بعيداً عن العمل، وهذا ما يحسنه كثيرون منا، إن حاجة النقد إلى البناء، لا تقل عن حاجة البناء إلى النقد، ولِمَ لا والعلاقة بينهما جدليّة. الذي يعمل يقدم الفرصة للناقد كي يقول شيئاً، والناقد يقدم فرصة للعامل كي يحسّن عمله، ويرتقي بإنتاجه.
في حالة التخلف يرفض كثير من الذين يعملون النقد، ويتكلم كثير من القاعدين بما لا يحسنون، في كل مجلس اعتراضات وانتقادات لا تكاد تُحصى، ومرور واسع على العالم من شرقه إلى غربه، ومن غربه إلى شرقه، وتشريح لأوضاعه وذكر لمساوئه وأزماته.. وينفضّ السامر ويذهب كل إلى بيته، وقد شعر كل واحد منا أنه استطاع أن يثبت سعة اطلاعه ومعرفته بالحلول للمشكلات التي تعاني منها البشرية!

وتمضي السنوات وتنصرم الأعمار، وتأتي أجيال جديدة والنقد ما زال مستمراً والأوضاع على حالها بل تزداد في بعض الأحيان سوءاً أو فساداً، وليس هناك من هو مستعد للتوقف من أجل رؤية ما حصلنا عليه من وراء تصويب البنادق إلى أعلى في امتدادات الفضاء!
إذا أردنا للنقد أن يثمر، وألاّ يكون شكلاً من التنفيس عن مكروب فحسب فعلينا أن نراعي الاعتبارات التالية :
1- النقد المفيد والمنتج هو الذي يتم في ظل البناء. إنه نقد يقوم به البناؤون أنفسهم، وأولئك القريبون منهم. إنهم أدرى بنقاط القوة ونقاط الضعف. وهم أدرى أيضاً بالآلية التي يجب اتباعها من أجل التصحيح، لكن المشكلة تقع حين يرفض العاملون القيام بأي مراجعة، ويصمّون آذانهم عن سماع أي نصيحة، إنهم في هذه الحالة يحرّضون غيرهم على أن يهرف بما لا يعرف.

ونحن على مستوى الأمة نعاني من بطء حركة اليد وضعف الإنجاز، وهذا يؤدي بطريقة ما إلى تباطؤ عمل العقل وطيش النقد، فبين العقل واليد أيضاً علاقة جدليّة، وإن إيجاد محفّزات إضافيّة على العمل سوف يساعد على تنشيط حركة النقد البنّاء.
2- الخبرة والتخصّص شرط أساسي لجعل النقد بناء؛ إذ إن من الملاحظ أن هناك شهوة قويّة لممارسة النقد، وربما كان ذلك لأن النقد يمنح الناقد تفوقاً فورياً على الأقران والجلساء، ومن ثم فإن كثيراً ممن يوجّهون النقد إلى غيرهم لا يملكون أي معرفة بحقيقة الأوضاع التي ينتقدونها، وكثير منهم يعتمد على أخبار صحفية أو تحليلات يسمعونها في القنوات الفضائية، ومن هنا فإن انتقاداتهم كثيراً ما تكون سطحية، أو أنها تعبر عن وجهة نظر ضعيفة أو منحازة. فقر مجتمعاتنا بالمتخصصين هو المسؤول عن هذه الحالة.

نحن لا نستطيع منع الناس من الكلام، ولكن من المهم أن ندرك جميعاً الفرق بين لغو المجالس وبين النقد المجدي والمفيد.
3- لا بد لنا إذا أردنا لنقدنا أن يكون مفيداً من أن نجعله واضحاً ومحدداً حين لا تعجبنا وضعية من الوضعيات فإن من المهم أن نذكر ما لا يعجبنا بالضبط؛ فالصلاح والفساد شيئان نسبيان، ورب شيء ننتقده، يكون أفضل ما تم الوصول إليه بعد جهد وعناء طويل.

ونحن ننتقد لنصلح، والإصلاح يتطلب أن نكون قادرين على شرح رأينا بوضوح فيما هو موضع مؤاخذة، وينبغي أن نكون في كثير من الحالات قادرين على تقديم بدائل، نعتقد أنها أفضل مما هو سائد، إن اعتمادنا لهذا المبدأ في النقد سوف يحمينا من أن نتخذ من النقد وسيلة لتفريج همومنا ليس أكثر.
4- إن الناقد مجتهد، وعليه أن ينظر إلى نقده على أنه يقبل المراجعة والرد. وليس من ننتقده ملزماً بالموافقة على كل ما نقوله له. وإذا كان الأمر كذلك فعلينا أن ننصح وننتقد على نحو يجعل المنتقد يتقبل نقدنا، ويهتم به. وهذا يتطلب أن نتحدث معه سراً وبلطف، ومن غير تكبّر واستعلاء.
إن النقد طعمه مرّ، والأسلوب الجميل يخفّف من مرارته، ويبرهن على أن ما نسعى إليه فعلاً هو الإصلاح، وليس الحصول على منافع شخصيّة.