أمة مستنيرة (1)

نستطيع القول: إن النظرةَ إلى طبيعة المعارف ودورها في حياة الناس قد دخلَ عليها بعضُ التطوُّرات الأساسيَّة، فقد كانت النظرةُ السائدة للعلم لدى كثيرٍ من المتقدِّمين على أنه شيءٌ يوازي العقل، ولهذا فإنَّ هناك الكثيرَ من الجدال والسِّجال حول أفضليَّة أحدهما على ا لآخر، فمن مفضِّل للعقل على العلم ومن مفضِّل للعلم على العقل. أما النظرةُ الحديثة للعلم فإنها تجعلُ منه المصدرَ الأعظم لتشكيل العقل .

كما أن هذه النظرةَ تجعل من المفاهيم والأفكار والمعلومات والإحصاءات وكلِّ المعطيات المعرفيَّة أدوات يستخدمها العقلُ في فهم الوجود والتعامل مع المشكلات.
وهذا يعني باختصار أن الضَّحالة المعرفيَّة لدى أيِّ شعب أو أيِّ أمَّة أو أيِّ فرد ستعني بنيةً عقليَّةً مشوَّهة وقاصرة، كما ستعني تعاملاً فجّاً وغيرَ موضوعيٍّ مع أحداث الحياة.

هذه النظرةُ الجديدة للمعرفة تجعلُ أمةَ الإسلام أمام تحدِّيَين كبيرَين :
الأول:

إنتاج كمٍّ كبير من الأفكار والمفاهيم والمعارف الموثوقة التي تحتاج إليها الأمَّةُ في فهم واقعها والمحيط العالميِّ المعاصر، كما تحتاج إليها في اكتشاف سُبُل نهضتها وازدهارها.
وإذا أردنا التفصيلَ في هذا، فيمكنُ أن نقولَ: إن كلَّ الأمم لديها مبادئُ وكليَّاتٌ وأصولٌ ثقافيَّة كبرى، وهذه المبادئُ… تشكِّل الإطار العامَّ لعمل العقل، كما أنها تشكِّل الإطار العامَّ لهموم الأمَّة واهتماماتها، وهذا متوافر على نحو لا بأس به لدينا، لكنَّ هناك نوعاً آخرَ من المفاهيم والأفكار والمعلومات الصغرى ذات البُعد الفنِّي التِّقني نحتاج إليه كي نستخدمَه في حلِّ المشكلات اليوميَّة وفي فتح حقولٍ صغيرة للإنجاز والعمل. السؤال الذي يطرح نفسَه هو: كيف يمكن إنتاجُ هذه الأفكار والمفاهيم، ومَن الذي سيقومُ بذلك؟.

الحقيقةُ أن مسألةً جليلةً مثل هذه المسألة أكبرُ من أن تُترَك إلى جهة أو جهتين، إنها قضيَّة أمَّة، وعلى الأمَّة جميعِها المساهمةُ في خدمتها. في الغرب – على سبيل المثال – كانت (الورش) والمصانعُ والشركات هي المصدرَ الر ئيسَ للأفكار والمعلومات التجاريَّة والصناعيَّة والتِّقنيَّة، وبعد ذلك صارت الجامعاتُ ومراكزُ البحوث والدراسات هي المصدرَ الأساسيَّ لها.
الشكل الواضح هو أن ما لدينا من مصانعَ… وما لدينا من جامعاتٍ ومراكزِ بحوث لا يقوم إلا بشيء يسير جدّاً مما نحتاج إليه، والسببُ هو بُدائيَّة المصانع وقلَّة مراكز البحوث وانشغالُ الجامعات بالتدريس، حيث إن البحثَ العلميَّ فيها في أضعف درجاته، وهناك استثناءاتٌ قليلة في كلِّ ذلك.

وأرجو ألا يُفهَم من هذا الكلام أن حاجةَ الأمَّة إلى أفكارٍ ومفاهيمَ في المجال الصناعيِّ وحدَه، إذ إن حاجتنا في المجالات السياسيَّة والتعليميَّة والدعويَّة والنهضَويَّة عامَّة لا تقلُّ أهميَّةً وإلحاحاً عن حاجتنا إلى المفاهيم الصناعيَّة.

ومن أجل التقدُّم في هذه المسألة فربَّما كان من المفيد أن نعملَ على الأشياء التالية :
1 – تنشيطُ الاهتمام العامِّ بضرورة توافُر الأفكار والمفاهيم الإصلاحيَّة والنهضَويَّة عن طريق بعض البرامج التِّلفازيَّة، وإصدار بعض المجلات التي تهتمُّ باستقطاب الكتابات التي يقدِّم أصحابُها رؤى حضاريَّة وتطويريَّة فذَّة ومبدعة.
2 – نأمُلُ أن تقومَ الجماعات الإسلاميَّة والمؤسَّسات الخيريَّة ووزاراتُ الأوقاف والجمعيَّات المهتمَّة بشؤون المعرفة بتأسيس مراكز بحوث صغيرة تابعة لها، تكون وظيفتُها إجراءَ البحوث والدراسات، ونشرَ الأرقام والإحصاءات التي تخدُم مجال عملها. إن لدى كلِّ جهة من هذه الجهات خبراتٍ مهمةً، كما أن لديها بعضَ الإمكانات التي يمكن توظيفُها في إنتاج المعرفة المتخصِّصة التي تُساعد العاملينَ في حقول الدَّعوة والإغاثة والعمل الخيريِّ والإصلاح الاجتماعيِّ على القيام بمهامِّهم على أفضل وجه ممكن.
3 – في تاريخنا الإسلاميِّ إضاءاتٌ جميلة وتجاربُ ناجحة في هذا الشأن، حيث كان بعضُ الوجَهاء والأثرياء يفرِّغون بعض العلماء والأدباء للتأليف والبحث، وكانوا يُنفقون عليهم بسخاء لاعتقادهم بأهميَّة الدَّور العلميِّ والفكريِّ الذي يقومون به. وهذا ما تفعلُه بعضُ الدول المتقدِّمة اليوم – ألمانيا مثلاً – حيثُ يتفقون مع بعض النابغينَ وأصحاب الخبرَة الواسعة في بعض المجالات من أجل تقديم الدراسات والأفكار والمقتَرحات التي يمكنُ أن تستفيدَ منها الدولةُ في حلِّ مشكلاتها وتطوير أدائها.

وتقومُ الدولةُ في المقابل بتهيئة المكان والبيئة والاحتياجات التي تساعد الخبيرَ على الإبداع والبحث والعطاء. ومن الثابت أن فكرةً واحدةً من عالم مرموق قد توفِّر على الدولة الملايين، وقد تجلبُ لها مئات الملايين. ومن الواضِح أن الأثرياءَ الذين يملكون الغيرةَ على مستقبل الأمَّة وكرامتها كثيرون جدّاً، لكن بسبب عدم الوعي بأهميَّة الأفكار والمفاهيم في تحقيق التقدُّم نجد عزوفاً شبهَ تام عن تمويل البحوث والدراسات وعن تفريغ العلماء والباحثين. وإذا أمكن لجهةٍ من الجهات أن تندُب نفسها لتشكيل إطار يجمعُ بين أهل الثراء وأهل العلم والخبرة، فإننا نكونُ قد حصلنا على خير عظيم .
4 – لابدَّ أن يكونَ للحكومات دورٌ أساسيٌّ في إنتاج المعارف الدقيقة والمتخصِّصة، وذلك عن طريق تفعيل البحث العلميِّ في الجامعات وعن طريق التشجيع والمساعدة على إنشاء مراكز البحوث والدراسات الأهليَّة، فالدولُ العربيَّة – ولا تبتعد عنها الدولُ الإسلاميَّة الأخرى – من أفقر دول العالم في أعداد المشتغلينَ بالبحث العلميِّ، كما هو معروفٌ ومشهور.

ويمكنُ للحكومات أن تقومَ بدور جوهَريٍّ في هذا الشأن عن طريق إلزام الشركات والمصانع بتخصيص 1% على الأقلِّ من دخلها لإنشاء مراكزَ للبحث والتطوير تخدُم منتجاتها ومجالات عملها. وإذا تمَّ هذا فسنجد رواجاً غيرَ مسبوق للكتاب، وسوقاً واسعة جدّاً لعمل الباحثين والمبدعين والمخترعين، وستجني الأمَّةُ والبلاد الإسلاميَّة من وراء ذلك الكثيرَ الكثير من المنافع المتنوِّعة.
إن زماننا هذا هو زمانُ العلم والمعرفة، وإن العقلَ من غير معرفةٍ جيِّدة ودقيقة حديثة يكون مشلولَ القدرة على العمل، ومن واجبنا من هذه اللحظة أن نعملَ في ضوء هذا المفهوم.

وللحديث بقيَّة.