على المدى البعيد

كنت قد تحدثت في مقالين سابقين عما يجب عمله في كل الأحوال والظروف إيماناً مني بأن هناك شيئاً ما يمكن القيام به من أجل نجاح العبد وفلاحه في أمور دنياه وآخرته.

وأود في هذا المقال وما يليه من مقالات أن أتحدث عن نوعية الوسط أو البيئة التي يجب العمل على المدى الطويل من أجل بنائها؛ كي يتوفر للإنسان المسلم الجو الملائم لأفضل عطاء وأفضل إنجاز ممكن.

والحقيقة أن أية أمة لا تستطيع استنفار طاقاتها والسيطرة على أوقاتها على وجه مقبول من غير رؤية (استراتيجية) لماهية البيئة التي يجب أن تحيا فيها أجيالها القادمة. ونحن بوصفنا أمة مسلمة لها منهجيتها ورؤيتها وتطلعاتها الخاصة، نعتقد على نحو جازم أن كل أشكال التنمية وكل أشكال التغيير والتطوير يجب أن تستهدف شيئاً واحداً هو توفير بيئة تساعد الإنسان المسلم على القيام بأمر الله -تعالى- على أفضل وجه ممكن، وهذه الرؤية نهائية وواضحة، وهي مستمدة من مجموعة العقائد والمفاهيم الكبرى التي نحملها، وهي رؤية متفردة، ليست لأي أمة من أمم الأرض اليوم، وهي إحدى سنن الله علينا.

إذا كان من غير الممكن -في عالم الأسباب- توقع حصول مستقبل مغاير مغايرة كبيرة للواقع؛ فإن علنا – إذا ما أردنا تكوين البيئة التي نريد – أن نحسَّن ونرشَّد القرارات اليومية التي نتخذها في كل صعيد وعلى المستويات كافة؛ إذ إن تشييد البنيات الثقافية والأخلاقية والاجتماعية يحتاج إلى أزمنة متطاولة وهو لا يتم على النحو الصحيح إلا من خلال العمل الحكيم والجذري والمتدرج.

البيئة تعني مجموعة المفاهيم والأخلاقيات والتقاليد والظروف والمعطيات والنظم المتوفرة والسائدة في بلد من البلدان .

وإن البيئة ذات دوائر متسعة منفتحة، والدائرة الأضيق بالنسبة إلى كل واحد منا هي الأكثر تأثيراً في حياته؛ فالأم هي أكثر من يؤثر في الطفل ثم الأسرة عامة، ثم الأقرباء وأهل الحي وهكذا…

والبيئة من وجه آخر أشبه بحبل غليظ مكوَّن من ألوف الخيوط والشعيرات الدقيقة، وكل عدد من تلك الخيوط والشعيرات ينتمي إلى مجال من المجالات الروحية والمعنوية والمادية. وقد دخل في نسيج ذلك الحبل في مرحلة من مراحل تكوّن ثقافة الأمة والأوضاع العامة التي تحيا فيها. وهناك تقريب للفكرة وإشارة إلى بعض تلك الخيوط والشعيرات في عدد من الأحاديث النبوية، منها قوله صلى الله عليه وسلم: “كل سُلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع في الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، و تعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وبكل خطوة تمشيها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة”، وقوله : ” الإيمان بضع وسبعون أو بضع وستون شعبة، فأفضلها قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان” وقوله: “كل معروف صدقة”.

إن قول الله – جل وعلا –: (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) يدل على رؤية الناس لجزاء أعمالهم في الآخرة، ويمكن أن نهتدي به في القول: إن ما يفعله الناس من خير وصلاح ومعروف وتنمية جيدة – إن كل ذلك يرونه في نوعية الأوضاع والظروف العامة التي يعيشون فيها، والتي ستعيش فيها ذراريهم من بعدهم؛ كما أنهم جميعاً سيرون آثار ما يصدر عنهم من شرور وآثام وأخطاء وخطايا على شكل صعوبات ومشكلات ومعوقات في وجه الحياة الطيبة التي يسعون إليها.

وإني أعترف هنا -وقبل كل شيء- أنني لا أملك الإمكانية الذهنية ولا المعرفة الكافية لرسم ملامح خطة شاملة وبعيدة المدى تستهدف توفير بيئة تساعد الفرد المسلم والدولة المسلمة على النهوض بأعباء الاستخلاف في الأرض، لكني سأبذل جهدي في وضع بعض النقاط على بعض الحروف الكبيرة، ومن الله – تعالى- الحول والطول.

1- قلما وجّه الدعاة والمصلحون لدينا اهتمامهم إلى نوعية البيئة التي يحتاج إليها المسلم كي يحيا زمانه بفاعلية ودرجة من الراحة في إطار العقيدة والقيم والآداب التي يؤمن بها، فقد كان الاهتمام – وما زال- بما يجب قوله أو بشروط الداعية الناجح دون النظر إلى الشروط التي تجعل المدعوين أقرب إلى التفاعل والاستجابة مع أن تأثير الظروف والمعطيات السائدة في توفير خيارات الحركة، وفي حفز الناس على تحديد اتجاهاتهم ومواقفهم تأثير هائل، وأكبر بكثير مما نظن.

إن الفرق بين البيئة المعاكسة والبيئة المواتية للاستقامة والرشاد والعطاء كالفرق بين من يسبح عكس التيار، ومن يسبح مع التيار؛ حين نطلب من شاب أن يبدع ويصبح باحثاً متميزاً في فرع من فروع العلم، ونجد أنه يعيش مع خمسة من إخوته في حجرة واحدة، وليس معه ثمن مرجع يشتريه، ولا تكاليف تجربه يجريها، كما أنه ليس في البلد الذي يقيم فيه مكتبة عامة ولا مركز تدريب ولا جمعية خيرية تمد يد العون في شيء.. حين نطلب ذلك؛ فإن الاستجابة ستكون في منتهى الصعوبة، وستكون في معظم الأحيان هزيلة، وسيكون المستجيبون من الشباب للتحفيز على البحث والإبداع قلة قليلة، أما الباقون فإنهم سيرضخون للظروف وسيرضون بأقل القليل من الإنجاز. وهذا ما هو حاصل فعلاً الآن في كل أنحاء العالم، وفي كل مجالات الحياة. البيئات المحطَّمة والهشة والجاهلة تحطم قوى من يعيش فيها، وتحطم تطلعاته وطموحاته، وتجعل آفاقه محدودة. ولهذه القاعدة شذوذات ملموسة ، لكن الذي يمنح الحياة ملامحها ليست الأمور الشاذة والنادرة وإنما الأمور الغالبة والكثيرة.

إن بلداً صغيراً مثل هولندا أو بلجيكا يسجل من براءات الاختراع ما يعادل نصف ما يسجله العالم الإسلامي بطوله وعرضه!، وإن براءات الاختراع التي تسجل في (إسرائيل) سنوياً يزيد على ما يسجل في الوطن العربي ذي الثلاثمائة مليون!!، وإن ما تنشره جامعة (هارفارد) من بحوث سنوياً يعادل ما تنشره كل الجامعات العربية مجتمعة!!.

 

2- إذا تأملنا في ردود أفعال الأمة على جملة الانحرافات التي كانت تحدث فيها لوجدنا أننا على مدار التاريخ – مع استثناءات مقدَّرة – كنا نعالج مشكلاتنا بوسيلتين؛ هما: سنّ المزيد من النظم والقوانين التي تقيّد حركة الناس وتحدّ من اندفاعاتهم، وقد عبّر عن هذا عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- حين قال: ” يحدث للناس من الأقضية على مقدار ما يُحدثون من الفجور” أي يحدث نوع من التشديد في الأقضية والجزاءات على مقدار ما يصدر منهم من تصاعد في الانحراف.

 

والوسيلة الثانية هي: (القوة) بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، وقد أشار إلى ذلك عثمان – رضي الله عنه – حين أطلق مقولته الشهيرة: “إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن”، ولو أن أبا بكر – رضي الله عنه– قال ذلك لما قُبل منه ولما كان دقيقاً؛ لأن الردع في زمانه كان بالقرآن (وهو ما نعبر عنه اليوم بالثقافة) أكثر من الردع بالسلطان (وهو ما نعبر عنه القوة)، ومع اضمحلال دور الثقافة والوازع الداخلي كان اللجوء إلى استخدام الشدة في إدارة الحياة العامة يتعاظم وينتشر، وقد نقل ابن حجر في فتح الباري عن الشعبي قوله: ” كان عمر فمن بعده إذا أخذوا العاصي أقاموه للناس ونزعوا عمامته، فلما كان زياد ضرب في الجنايات بالسياط، ثم زاد مصعب بن الزبير حلق اللحية، فلما كان بشر بن مروان سمر كفَّ الجاني بمسمار، فلما قدم الحجاج قال: هذا كله لعب فقتل بالسيف”.

النتيجة النهائية لهذه وتلك هي إخراج المسلم الخائف والخانع والسلبي والإمعة وإخراج المجتمع الذي يُظهر ضروباً من الامتثال للنظم السارية في الوقت الذي يضمر فيها روح التمرد والتبرم، كما يضمر الكثير من السلوكات والأعمال السيئة. ومع إيماننا بأنه لا يمكن لمجتمع أن يعيش من غير نظم وقوانين توجه الحركة الاجتماعية وتشكل المرجعية الأخلاقية والتنظيمية للناس، ومع إيماننا بأن الدولة مهما كانت عادلة وفاضلة وناجحة لا تستغني عن استخدام شيء من السلطة والقوة؛ إلا أن علينا أن ندرك أن هذا الأسلوب في معالجة الأخطاء ليس هو الأسلوب الصحيح من وجهة النظر الإسلامية، ولا هو بالأسلوب العملي والمنتج والملائم لبلوغ الأهداف التي نسعى إليها.

على المدى البعيد لابد من العمل على توسيع مجال عمل (الثقافة) في تحديد مسارات المجتمع وفي كبحه عن الانحراف والرذيلة . فجوهر الإيمان والإسلام لا يقوم على الإكراه ولا على الامتثال للضغط الخارجي، وإنما يقوم على الاختيار والمبادرة الشخصية والشعور بالمسؤولية. والدولة الفاضلة هي التي تدير شؤون مجتمعها بأقل قدر من القوانين ومن أدوات القهر والإكراه، والفضيلة لا تكون لذلك إلا بتعشق الناس لها واستعدادهم للتضحية من أجلها.

إن كثرة السجون وتصاعد الرقابة الصارمة، وسن المزيد من القوانين؛ هو دليل على قصور التنشئة الاجتماعية، كما أنه دليل على ضعف الإيمان وأدبيات التدين السائد في تشكيل مواقف الناس وسلوكاتهم، ودليل على ضعف جاذبية الدولة في كسب ولاء الناس وتجاوبهم. وقد آن الأوان للتفكير العميق والعمل الجاد من أجل تشكيل بيئة يمتنع فيها الناس عن الانحراف والفساد بدافع من إيمانهم وخوفهم من الله –تعالى- وليس بدافع من خوف الدولة أو كلام الناس. ومداخل مثل هذا الاتجاه واضحة لدى أهل البصيرة والخبرة.

فإن وضع الأمة في بيئة تساعدها على تحسين إنتاجيتها وتحرير طاقاتها واكتشاف إمكاناتها الحضارية الكامنة؛ يتطلب أن نعطي لمسائل الأمن والاستقرار والسلام والوئام الاجتماعي جلَّ اهتمامنا وعنايتنا.

حين يضطرب حبل الأمن فإن الفرصة تصبح متاحة لظهور كل أشكال التوحش والهمجية التي اختفت تحت قشرة رقيقة من طلاء الحضارة. وقد دلت شواهد التاريخ ومعطيات الواقع أن أشد الحاجات إلحاحاً تتمثل في اهتداء الناس إلى طريقة ناجعة لإدارة العنف والتوتر الذي ينشأ نتيجة تصادم رغباتهم ومصالحهم؛ حيث إن اجتماع الناس بعضهم مع بعض على مقدار ما يوفر من المباهج والمسرات والمشاعر الحميمة يوفر إمكانات التناحر والتحارب.

حاجة الناس إلى أن يتعايشوا في إطار نظم وقوانين توضح مبادئ حقوقهم وواجباتهم حاجة ماسَّة؛ لكن هذه الحاجة لا يمكن تلبيتها في أجواء الحرب الأهلية والتطاحن الاجتماعي.

إن القانون السائد مهما كان غير عادل وغير مكتمل فإنه يظل خيراً من الوضعيات التي لا يحكم فيها أي قانون حيث يتحول المجتمع إلى غابة ليس فيها إلا مفترِس ومفترَس وظالم ومظلوم!.

ليست إدارة العنف داخل المجتمعات بالأمر السلس واليسير، فهذه القضية دوَّخت العالم من أدناه إلى أقصاه، والتقدم الذي تحقق على صعيدها نسبي وغير مرضٍ في معظم الحالات، ولعلي أقف مع هذه المسألة الوقفات التالية:

 

1- هناك تشوق إنساني عميق إلى ما يمكن أن نسميه (تحقيق الذات) حيث يتطلع الإنسان إلى أن يؤكد لنفسه وللآخرين قدرته على القيادة والتأثير واستحقاقه للريادة والتسامي نحو المعالي. وهو في سبيل ذلك مستعد للتضحية والبذل كما أنه مستعد عند الحاجة لتجاوز كل المبادئ والقيم؛ بل ارتكاب الجرائم إذا اقتضت الضرورة ذلك!. الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية والاجتماعية تساعد المرء على تحقيق ذاته والكشف عن إمكاناته؛ فهذا يحقق ما يتطلع إليه عن طريق تأسيس رابطة، وذاك يحققه عن طريق رئاسة جمعية، وثالث يحققه عن طريق الانخراط في حركة لحماية البيئة وهكذا..، لكن بما أن كل جماعي يؤسس لسلطة جديدة، ويثير حساسية معينة لدى بعض الجهات؛ فإن هناك رغبة قوية في ابتعاد الناس عن كل الأنشطة الجماعية والحرة مهما كانت نبيلة الأهداف وعظيمة الفوائد والنتائج. ومن هنا فإن انسداد الآفاق أمام الأنشطة المشار إليها أو تضييقها وانحسارها إلى حد كبير؛ دفع بالناس إلى أن يجعلوا تحقيق ذواتهم يتم عن طريق جمع الأموال والثروات واقتناص الوجاهة وإظهار السيطرة عن طريق التفنن في إنفاقها واستخدامها. وبما أن المعروض من (المال) هو دائماً أقل من المطلوب – حيث لا يملأ فم ابن آدم إلا التراب- فإن منافسة ضارية قد اشتعلت في كل مكان من ديار المسلمين وعلى كل المستويات، وعلى مدار التاريخ كانت المنافسة متصلة بانحطاط المدنية وسوء الأخلاق، حيث يدفع الحرص على جمع المزيد من المال نحو الكذب والغش والخداع والرشوة والتضحية بالكرامة وارتهان الذات.. وقد صرتَ تلتقي بأشخاص كثيرين لا ترى فيهم أبداً ما يدل على أنهم يرجون الله والدار الآخرة، أو يقيمون أي اعتبار لمبادئ الإسلام وقيمه! وفقدت الحياة بذلك أجمل معانيها!. إن إطلاق الأنشطة الروحية والأدبية والتطوعية المختلفة والتحفيز عليها وتيسير سبلها، يخفف إلى حد كبير من الطلب على المال، ويخفف بالتالي من حدة التعانف الأهلي والتوتر الاجتماعي.

 

وأعتقد أن علينا أن نبتكر في إيجاد الأطر والأوعية والنظم التي تتيح للناس الشعور بتحقيق الذات وإشباع التطلعات على نحو لا يتصل بالمال أو أي اعتبار آخر.

2- لن يتحقق السلام في مجتمعاتنا ولا الأمن ولا الاستقرار ولا الشعور بالانتماء للوطن ما لم يسد العدل وتكافؤ الفرص ونفاذ القوانين عل الناس دون استثناء ودون اعتبار خصوصية لأي كان. والحقيقة أن الإسلام عانى طويلاً مع العرب ومع كل المجتمعات التي تقوم فيها الروابط على أساس العرف والنسب؛ وكان الهمُّ المسيطر خلال تاريخنا الطويل – على المستوى السياسي والقانوني- هو نقل المجتمعات الإسلامية من مرحلة القبيلة إلى مرحلة الدولة، أي من مرحلة الولاءات والتكتلات وتبادل المنافع على أساس الولادة ومعطيات التاريخ إلى مرحلة الخضوع للأحكام الشرعية والقوانين والنظم السارية. ويجب أن نعترف أنه لم تسجل اختراقات ذات شأن على هذا الصعيد. وعلى نحو عام فإن النجاحات كانت محدودة جداً وهذا الإخفاق في الانتقال من مرحلة الدولة كان السبب الجوهري وراء كثير من الفتن والثورات التي كانت تجتاح الأمة في العديد من فتراتها التاريخية. وهو نفسه السبب الكامن خلف سلبية الإنسان المسلم عامة والعربي خاصة تجاه المخاطر المحدقة التي تتعرض لها بعض الأوطان الإسلامية إلى درجة أن يقوم الناس ويحتجوا في الغرب ضد ممارسة حكوماتهم تجاهنا، ونحن سادرون غافلون ومنهمكون في همومنا الشخصية، وكأن الأمر لا يعنينا من قريب أو بعيد!!.

 

حين سرقت امرأة من بني مخزوم – فخذٌ من أنبل أفخاذ قريش- أهمّ ذلك قريشاً: كيف تُقطع يدُ مخزومية ؟! وقالوا: من يكلَّم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إلا أسامة بن زيد حبُّ رسول الله؟ فكلّمه أسامة في ذلك، فقال الرسول: ” أتشفع في حد من حدود الله ؟! ثم قام – عليه الصلاة والسلام – خطيباً في الناس ليعلن لهم مبدأ من أهم المبادئ التي تقوم عليها الأمم والحضارات العظيمة حيث قال: ” إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد!. وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها”.

ربما نكون قد قدَّمنا نموذجاً واحداً ثابتاً وشاملاً في مسألة تكافؤ الفرص وإشاعة العدل والتعامل على أساس الكفاءة الشخصية وليس على أي أساس آخر؛ ذلك النموذج هو ما يتم في تشكيل المنتخبات الوطنية التي تمثل بلاد المسلمين في الألعاب الرياضية الدولية. هنا يتم تحري الأكفأ والأليق دون حساسيات ودون حسابات خاصة ودون اعتبار لمنافع جانبية؛ في الأعم الأغلب. وأنت تلاحظ ما يثيره هذا السلوك الجيد من حمية الناس وحماستهم وتعاطفهم حيث ينقلب الشخص غير المكترث بذهاب وطن إلى إنسان مشتعل حماساً إلى درجة لا تُصدَّق بسبب دخول كرة فريقه الوطني في شباك مرمى المنافس!، وإني لا أشك أن الناس سوف يتفاعلون ويبذلون ويهبّون تجاه كل المسائل الكبرى إذا شعروا أن الأمور تجري فيها على ما ينبغي، ووجدوا الإطار الذي يعبرون من خلاله عن ذلك؛ فالخير متأصل في النفوس والولاء لأمة الإسلام وللمجتمع الإسلامي ضارب أطنابه في أعماق شخصية المسلم.

الوطنية في جوهرها شعور بشرف الانتماء لبقعة من الأرض تحكمها نظم وقوانين واحدة، ويجمع الناس الذين يعيشون عليها الالتزام بمبادئ وقيم موحدة، والسعي إلى أهداف متقاربة ولا معنى للانتماء إلى أرض لا تتوفر فيها هذه المعاني. وقد قال أحدهم : لماذا أدافع عن وطن لم يؤمّني من خوف، ولم يُطعمني من جوع، ولم يساعدني على ارتجاع حقي المغتصب؟!.

3- يتطلب استتباب الأمن والشعور بالسلام والاستقرار إحساس الناس بأن لهم نوعاً من المشاركة في إدارة الشأن العام. أما في الأمور اللصيقة بهم؛ فلا يُتخذ قرار دون موافقة أغلبيتهم عليه. وإن قول ا لله – جل وعلا- ( وأمرهم شورى بينهم) يوضح أن بعد الشورى ليس سياسياً فحسب؛ وإنما لها أبعاد أخرى: أخلاقية وتربوية واجتماعية.

 

على المستوى السياسي من المهم جداً أن يعرف الناس أنهم من خلال الشورى يستطيعون تحقيق ولايتهم على أنفسهم ، ويستطيعون أن يثقوا أنهم إذا ابتلوا بحكومة سيئة، فإنهم قادرون على التخلص منها من غير إراقة دماء أو تخريب للمرافق والممتلكات العامة؛ فالسلم الاجتماعي لا يأتي من خلال الدعوة إليه، وإنما من خلال فتح طرق للتغيير والتطوير والتحسين، تبتعد عن التآمر والقتل والتخريب. إننا أحياناً نمتنع عن استشارة الناس خوفاً من أن يأتوا بعناصر سيئة تسيء للدين والمصلحة العامة، وهذا الخوف مقدَّر ومعتبر وقد يحدث هذا فعلاً في بعض الأحيان ولاسيما في البدايات أو عند فساد التربية، لكن هذا لا يشكل القاعدة، فالولاء للدين وللصلاح والكفاءة قوي جداً في الأمة؛ وفي الإمكان وضع ضوابط تحد من مخاطر هذا الأمر. وعلى كل حال فلن نستطيع أبداً العثور على صيغة في إدارة العنف وتسيير الشأن العام، تخلو من السلبيات أو الأخطاء. ولا بد في سبيل أن تنال بعض الأشياء من أن تخسر أشياء أخرى. هذا هو حال الإنسان الذي يجد نفسه أبداً عاجزاً عن الصدور عن رؤى كلية وبناء تنظيمات وترتيبات كاملة.

إننا في حاجة ماسَّة حتى ننهض ونتخلص من أشكال العنف إلى أن نجعل الشورى تقليداً محترماً في بيوتنا ومدارسنا ودوائرنا ومؤسساتنا وكل مناشط حياتنا؛ فالقضايا الكبرى تظل قضايا خاسرة ما لم تتصد الأمة لحملها والمساهمة في إنجاحها. وكل حمل يتم خارج رحم الأمة هو أشبه بالحمل الكاذب. لكن الأمة غير مستعدة للتضحية ما لم تشعر أنها تشارك في صنع القرار، وأنها ليست عبارة عن أدوات للتنفيذ فقط. وعلى علمائنا ومفكرينا وخبراء التشريع والقانون فينا أن يبدعوا في إيجاد صيغ تنظيمية تجعل الشورى أسلوب حياة، كما تجعل منها أداة للإصلاح والارتقاء في إطار الأصول والثوابت التي نؤمن بها.

4- إنني أتساءل دائماً: هل يمكن للأمن والنظام والسلام والاستقرار والتعايش السلمي أن يتم في أي مجتمع من المجتمعات دون وجود تنظيم جيد للنقد والمعارضة وتضارب الرؤى والآراء والاتجاهات؟

 

ليس من المقبول في اعتبار العقل والشرع أن يقول من شاء ما شاء دون خوف المساءلة القضائية عن صحة ما يقول، ولا أن يفعل الناس ما يعنّ لهم ولو كان ضاراً بالمصلحة العامة. كما أنه ليس من المقبول أن تكمم الأفواه، فلا يتمكن أي أحد من إبداء وجهة نظره في شأن عام، مهما كان رأيه سديداً ورشيداً، فالقرآن الكريم شجّع الناس على ممارسة النقد من خلال معاتبة النبي – صلى الله عليه وسلم- على بعض اجتهاداته ومعاتبة الصحابة – رضوان الله عليهم- على بعض ما وقع منهم؛ حيث يُعد التستر على الأخطاء أكبر مشجع على تكرارها واستمرارها، وحيث يُعدّ النقد والبحث عن أشكال القصور وأنواع الأخطاء والخطايا من أفضل الوسائل المساعدة على الإصلاح وتخليص الناس من كثير من المشكلات والأزمات ومحاصرة المفاسد والشرور.

إن تراثنا الفقهي لم يستوف التنظير والتعقيد لضوابط النقد والمعارضة وتضارب الآراء على نحو يغنينا عن النظر والاجتهاد، بل إن كثيراً من التفاصيل والحيثيات ما زالت غامضة، وأعتقد أن كثيراً من الاضطرابات الهوجاء والأزمات الخانقة التي مرت بها الأمة كان بسبب التطرف في التعامل مع هذه المسألة؛ فالحريصون على بقاء كل شيء على ما هو عليه مهما كان غير ملائم وغير صحيح ضيقوا أبواب النقد إلى حد إسكات الناس عن قول أي شيء. والذين كانوا يشكون من سوء الأحوال كانوا يريدون قلب كل شيء رأساً على عقب بعيداً عن الرفق والتدرج والمجادلة بالتي هي أحسن. وقد آن الأوان لأن تتلاحم الصفوف، وتتشابك الأيدي بين الجميع ومن كل المستويات والمجالات من أجل العمل الدؤوب على إرساء التقاليد وسنّ القوانين وتشييد المؤسسات وإبداع الأفكار التي تنشر الأمن والسلام وحب النظام والالتزام بالأحكام الشرعية والأعراف الصالحة والقوانين السارية، وتساعد في الوقت نفسه على نبذ التعانف والتقاتل واللجوء إلى القوة بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.

فإن لدى كثير من أهل الخير حساسية خاصة نحو الحديث عن الاقتصاد والتنمية والزيادة السكانية والبطالة؛ فهم يشعرون أن الاهتمام بهذه الأمور لا يخلو من نزوع نحو الدنيوية والمادية، وإعطاء الاعتبارات المعيشية أكثر مما تستحق من العناية والانتباه. وفي تصوري أن هذه الحساسية لم تعد سائغة اليوم، فأنا مع اعتقادي بضرورة توخي الحذر من الوقوع في شرك الحسابات والاعتبارات المادية البحتة بعيداً عن المبادئ والأهداف الإسلامية إلا أنني أعتقد أن من شأن التقدم الحضاري أن يضعف إرادة المقاومة لدى الناس تجاه المغريات، ومن ثم فإنهم يُظهرون المزيد من الاستجابة لضغوط البيئة ومتطلبات العيش، وكثيراً ما يكون ذلك على حساب مبادئهم وقيمهم؛ مما يعني أن تحسين شروط العيش إلى حدود مقبولة، سيساعد الناس على أن يحققوا مصالحهم في إطار مبادئهم وأخلاقياتهم؛ والعكس صحيح.

إن كثيراً من سقم التفكير وتخلف الخطط والمناهج الإصلاحية يأتي من خلال الانغلاق وصرف الاهتمام عن التطورات المتسارعة فيما يتعلق بحاجات الناس وضرورات وجودهم، ومن خلال عدم الاكتراث بالتحولات في ذائقتهم الثقافية ونظرتهم إلى الضغوط والمرفهات والحقوق والواجبات، وإن مفتاح فهم كل ذلك يكمن في شيء واحد هو الانفتاح على الواقع والتأمل في تداعياته وإحالاته واتجاهاته؛ إذ ما فتئ فهم الواقع واستكشافه بإيجابية مصدراً لتطوير الذهنية وتوجيه المعرفة ومصدراً لإعادة ترتيب الأولويات.

لا بد من هذه اللحظة وعلى المدى البعيد من العمل على إيجاد تنمية اقتصادية تكافئ الزيادة السكانية في العالم الإسلامي. ومن المهم أن ندرك أن كل الأمم التي اعتمدت في معيشتها على الزراعة والرعي خلال القرنين الماضيين تواجه مشكلات اقتصادية متفاقمة؛ فالناس يزيدون، لكن الأرض لا تزيد، فهي مع كل جيل تشهد نقلة في التفتت والتضاؤل؛ وعلى سبيل المثال فإذا قلنا: إن زيداً من الناس يملك مئة فدان من الأرض، وله خمسة من الولد، فإنه بعد وفاته ستقسّم ليكون لكل واحد عشرون فداناً. فإذا توفي أولئك الخمسة، وترك كل واحد منهم أيضاً خمسة (فيكون المجموع خمسة وعشرين ولداً) فإن نصيب الواحد منهم سيكون أربعة أفدنة. فإذا قلنا إن أولئك الخمسة والعشرين من الأحفاد توفوا، وترك كل واحد منهم أيضاً خمسة من الولد، فإن عددهم سيكون مئة وخمسة وعشرين، وسيكون نصيب الواحد منهم من تلك الأرض 80% من الفدان. وعليه أن يأكل من هذا القدر الضئيل وأن يبيع على نحو يمكنه من شراء كل حاجاته المتسعة ودفع تكاليف تعليم أبنائه وتطبيبهم وكسوتهم، حيث إن العولمة تدفع الحكومات نحو التخلص من كل الخدمات المجانية التي تقدمها؛ ليواجه كل واحد مصيره على نحو منفرد!.

وهكذا فعبر قرن من الزمان تنخفض حصة الشخص من الأرض إلى أقـل مـن 1%! وليس هذا من صنع الخيال، بل هو الواقع المشهور والملموس وليس الذين يعملون في الرعي بأحسن حالاً؛ فالأرضي المخصصة للرعي هي الأخرى تتفتت وتزدحم فيها الماشية، ويزحف عليها العمران، ويقل عطاؤها بسبب تراجع كمية الأمطار في معظم أنحاء الوطن العربي.

إن نسبة الزيادة السكانية في العالم الإسلامي بشكل عام مرتفعة إذا ما قسناها بما لدى الدول الأخرى، فعلى سبيل المثال يزيد السكان في الدول العربية سنوياً بنسبة 3% في الحد الأوسط على حين أن الزيادة في بريطانيا تبلغ 1.% وفي فرنسا 6.% . أما بلد مثل روسيا؛ فإنه يعاني من نقص في السكان يصل إلى نحو مليون إنسان في السنة، وينقص عدد سكان ألمانيا نحواً من مئة ألف شخص في السنة. وحتى نعرف حجم الزيادة السكانية، وتطورها السريع؛ فإن من المفيد أن نعلم أن إجمالي سكان الوطن العربي كان عام 1400هـ نحو من 160 مليون نسمة. ويتوقع أن يكون وصل عام 1420هـ إلى 300 مليون نسمة، وإن بلداً مثل الجزائر يتضاعف سكانه كل 25 سنة، ومن المتوقع أن يرتفع إلى 285 مليون نسمة خلال قرن!.

ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الشعوب الإسلامية شعوب فتيّة، حيث إن حوالي نصف السكان هم من الأطفال والأشبال دون سن الخامسة عشرة. وهذا يعني أن لدينا أعداداً هائلة تحتاج إلى تربية وتعليم واستيعاب نفسي واجتماعي، ثم إلى فرص عمل وخدمات عامة كثيرة.

ليست الزيادة السكانية في حد ذاتها مشكلة .. على العكس إنها ميزة؛ حيث لا يمكن اليوم لدولة أن تصبح دولة عظمى إذا لم يصل سكانها إلى الخمسين مليوناً على الأقل . لكن علينا أن ندرك من وجه آخر أن الازدحام على موارد محدودة وعدم القدرة على تأمين الحد الأدنى من الحاجات الضرورية، وتأمين تعليم وتدريب جيدين؛ سيجعل من هذه الأعداد الغفيرة من الفتيان والشباب أشبه بجيش جرار لم يتلقَّ من التدريب ولم يجد من التنظيم ولا من التسليح ما يكفيه؛ إنه في هذه الحالة يصبح هدفاً سهلاً للعدو، إنه يصبح أرقاماً غير ذات معنى، وبعض العنصريين من الغربيين يقولون باستخفاف: إن في العالم خمسة مليارات من البشر، منهم مليار – أي أبناء العالم الصناعي- مواطنون والباقون سكان.

في حديث القصعة وصف واضح للكثرة العددية الفاقدة للكيف والمضمون. فقد قال صلى الله عليه وسلم: “يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: أو من قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله؟! قال: لا. أنتم يومئذٍ كثيرون ولكنكم غثاء كغثاء السيل…”.

إذاً مشكلة المسلمين في آخر الزمان ليست مشكلة (كم) ولكن مشكلة (كيف) و (نوعية).

عدم وجود تنمية جيدة في معظم أنحاء العالم الإسلامي دفع بأبنائنا وإخواننا إلى الهجرة إلى الغرب، حيث يشتغل معظمهم في مهن وضيعة يترفع الأوروبي عن العمل فيها. وهناك يضيع نصف الجيل الثاني ومعظم الجيل الثالث، حيث الانسلاخ شبه الكامل عن العقيدة والهوية. وعيش أبنائهم في الغرب على هامش المجتمع، دفع بهم إلى الجريمة والرذيلة وإدمان المخدرات، فصاروا يشكلون نسبة مخيفة من نزلاء السجون هناك!

وتوجُّه فرنسا إلى منع الحجاب يشكّل نوعاً من التعبير القانوني عن الضيق من جاليات باتت تشكل عبئاً على المجتمع، وهي بادرة خطيرة، وربما تحدو دول غربية أخرى حذوها، ويصبح الملتزمون من المسلمين في الغرب في وضعية أشبه بوضعية من وجد نفسه بين المطرقة والسندان.

ومن واجبنا جميعاً أن نحول دون ذلك بكل وسيلة ممكنة.

لا أريد أن أتحدث أكثر من هذا عن الحاجة إلى تنمية اقتصادية تعتمد على أسس ومنطلقات جديدة، وإنما أحب أن أركّز على نقطتين هنا:

الأولى: حتى يتحسن وضع فرص العمل، وحتى تفتح حقول جديدة لكسب الرزق، فإنه لا بد من الارتقاء بالتعليم وتشجيع الناس على أن يتخذوا من التدريب المنهجي مدخلاً لاكتساب المهارات وتنمية الشخصية.

إن التعليم في معظم أنحاء العالم الإسلامي يعد بالمعايير العالمية قاصراً عن الوفاء بحاجات العصر؛ فالفصول مكدسّة بالطلاب، وأسلوب التدريس مبني على أن يقوم المدرس بكل شيء، ويظل الطالب في موقع المتفرج وليس المشارك والمتفاعل. والتجهيزات المدرسية معدومة أو عند حدها الأدنى. والأهم من هذا وذاك فقد المدرسين والطلاب للحماسة المطلوبة لنجاح العمل التعليمي . ولا يختلف التعليم الجامعي في هذا كثيراً عن التعليم الأساسي، مع استثناءات قليلة.

ولا شك أن هناك الكثير من الاقتراحات والحلول المطروحة للنهوض بالتعليم، لكن ستظل الأمور تزداد سوءًا ما لم تحدث تحولات جذرية في أوضاع المدارس وفي العلاقة بين البيت والمدرسة. وقد آن الأوان ليساهم الآباء في تأمين تعليم جيد لأبنائهم من خلال تشكيل عدد كبير من مجالس التعليم في الأحياء والقرى، ويكون لها صلاحيات واسعة جداً في بحث أوضاع المدارس وتوجيهها ومحاولة النهوض بها، ولا بد من الآن فصاعداً من أن يخصص كل واحد منا جزءاً من ميزانيته الخاصة لمؤازرة المدارس في القيام برسالتها من خلال التوسع في مبانيها وتدعيم مختبراتها وتجهيزاتها المختلفة.

التعليم الجيد وحده هو الذي يوجد في نفس الطالب الولاء لمدرسته ومن خلالها لوطنه وأمته. والتعليم السيئ يجعل الطالب زاهداً في كل ذلك، وإلى جانب تطوير التعليم لا بد من إرساء تقاليد ثقافية تمجد التدريب على اكتساب المهارات والطرق الجديدة في إدارة الأعمال وتنفيذ المهام، فالتطور السريع الحاصل الآن في كل مجالات الحياة سيجعل كل ما لدى الواحد منا من مفاهيم وخبرات ومهارات محدود مدة الصلاحية، حيث تتسارع إليه الشيخوخة، وهو ما يزال في طور الصبا. وقد أدركت الأمم المتقدمة، وصارت تنفق بسخاء بالغ على التدريب انطلاقاً من هذه الحقيقة. إن مجمل ما تنفقه اليابان على التدريب يزيد على 80 مليار دولار في السنة . أما الولايات المتحدة فإنها تنفق ما يتراوح بين 120 مليار دولار و 180 مليار. ولا بد من الآن فصاعداً من أن نسلك كل سبيل لإقناع الناس بأهمية التدريب لدخول سوق العمل ثم الاستمرار فيه. ولا بد أن يكون واضحاً في العقود الجديدة تحديد ما ستقدمه المؤسسة أو الشركة أو المصنع أو الجامعة من تدريب وتعليم لمن سيعمل فيها.

 

الثانية: من المهم أن ندرك أننا في زمان فريد، بات ارتقاء الإنسان فيه منوطاً إلى حد بعيد بنوعية المهنة التي يعمل والتخصص الذي تعمق فيه، فنظراً للتنظيم والتصنيف المتنامي للأعمال والمهن، ونظراً لتحسّن وعي الناس بواجباتهم الوظيفية، صار الناس يبذلون جهوداً كبرى للوفاء بمتطلبات الوظيفة والمهنة، وما تفرضه من تعليم وتدريب وتنظيم للحياة الشخصية. ونستفيد من هذا أن تحسين البيئة ورفع مستوى الناس يتطلب تأسيس توجهٍ إلى الأعمال المتصلة بالمعرفة الرفيعة والجهد الذهني المركّز. ولك أن تقارن بين العاملين في القطاعات المهنية التي لا تتطلب أي جهد ذهني أو معرفة راقية مثل قطاع بيع التجزئة وقطاع الزراعة وقطاع الإنشاء… وبين العاملين في قطاع التعليم الجامعي والبحث العلمي وتقنية المعلومات والتدريب… وستجد صدق ما أريد توضيحه.

 

إن المجال الواعد اليوم هو مجال (تقنية المعلومات) وكل ما يتصل بمجال الحاسب الآلي وتطبيقاته المتسعة، وهذا المجال بات اليوم القطاع الصناعي الأول حيث تزيد قيمة الأعمال فيه على (التريليون) دولار. ونحن أمة غنية بالموارد البشرية. وهذا المجال يحتاج أساساً إلى العنصر البشري المتعلم وإلى البيئة المنظمة تنظيماً جيداً. ولا يحتاج هذا وذاك إلى أموال طائلة.

إن العالم كله اليوم يخوض سباقاً محموماً نحو ترسيخ أقدامه في هذا المجال، وقد وضعت بريطانيا خطة لتطوير البلد تقنياً، قيمتها خمسون مليار جنيهاً. وعلى ضخامتها فقد ذكر أحد الباحثين أنها غير كافية وجاءت متأخرة !.

ووصفت إحدى المنظمات الدولية الدول العربية بأنها جائعة معلوماتيًا على حين أنها وصفت (إسرائيل) بأنها دولة نَهِمَة معلوماتيًا. وقد أضحت (إسرائيل) اليوم الدولة الأولى في أمن المعلومات، وهي تصدر منتجات معلوماتية إلى أوروبا وأمريكا والصين في غاية التطور والتعقيد، وتقبض أثماناً عالية لها.

إن من المهم جداً ألا نتأخر أكثر مما حدث عن الاستثمار في قطاع المعلومات والتقنية المتقدمة من أجل الارتقاء بالمسلم المعاصر ومن أجل إيجاد فرص عمل للأجيال الجديدة في مجال هو الأسرع نمواً بين مجالات العمل المختلفة. وإذا لم نفعل ذلك فإن الأعداد المتزايدة من هؤلاء الذين تدفع بهم الأرحام سوف تتحول إلى قنابل موقوتة تدمر نفسها وبيئتها في آن واحد.

ومسؤولية التقدم في هذا الشأن ملقاة على عاتق الأسرة والمدرسة والدولة ورجال الأعمال. وعلى كل راشد فينا أن يحاول مساعدة نفسه والارتقاء بذاته حيث أعرض الآخرون عن مساعدته .

فقد كان مالك بن نبي – رحمه الله- لاحظ أن المجتمعات الإسلامية تعاني من (فرط تسييس)، حيث إن هناك ميلاً عارماً إلى مطالبة الدول بأن تقوم بكل شيء على حين يظل معظم الناس غافلين عاطلين. وملاحظته – في ظني- في مكانها حيث إن كثيراً من الإصلاحيين على اختلاف مشاربهم يركزون باستمرار على ما على الحكومات أن تقوم به من إصلاح نفسها، وإصلاح غيرها، على حين أن كثيراً منهم لم يستطيعوا المساهمة العملية في نهضة الأمة؛ وكأن اعتقادنا بأن كلام المرء جزء من عمله، جعلنا نظن أننا بالخطب الرنانة والمقالات البليغة والكتب ذوات المئين من الصفحات نستطيع أن نحل مشكلاتنا المستطيلة في الزمان والمستعرضة في المكان!.

في البداية أحب أن أؤكد أن من المهم أن يشتغل بعض الناس في العمل السياسي من خلال نشر الوعي بطبيعة هذا المجال ومن خلال ممارسة النقد ودخول الانتخابات وتشكيل الأحزاب؛ إنني لست ضد هذا، ولا أهوّن أبداً من شأنه، ولكن الشيء الذي لا أرى أنه صواب هو الظن بأنه حين تقوم دولة حسب المواصفات المطلوبة سوف نتخلص من كثير الأزمات والمشكلات الموجودة.

إن هذا أحد أكثر الأوهام انتشاراً. وكثير من الجماعات الإسلامية المشتغلة بالسياسة علقت كل توازنها على الحكومة العظيمة التي ستشكلها في المستقبل حين تصل إلى الحكم. وبما أن المجال السياسي، لا يتسع لكل الناس، ولا يستطيع كثيرون العمل فيه، فإن أعداداً كبيرة من شبابها عاطلون عن أي عمل دعوي أو اجتماعي نافع!.

وجود الدولة في الأصل شيء مكروه من النفوس؛ لأنها تمثل سلطة وقوة، وهي – على المستوى الوظيفي – أميل إلى أن تكون كابحة وضابطة أكثر من أن تكون بانية أو مُصْلحة. وإذا استطاعت الدولة حماية النظم السارية وتطبيقها دون تحيز إلى جانب دعم استقلالية القضاء وتسهيل حركة الفرد مع حد مقبول من المرافق العامة؛ فإنها تكون قد قامت بأشياء عظيمة جداً. ومعظم دول العالم ما زالت تخفق في تحقيق ذلك.

العمل الأساسي الذي يُنْتَظر من الجميع المساهمة فيه هو العمل الاجتماعي – بأوسع ما تحمله هذه الكلمة من دلالة –. في العالم اليوم قطاع يسمونه (القطاع الثالث) أو (القطاع اللاربحي) إنه شيء غير القطاع العام الذي تكون مؤسساته ملكاً للدولة وغير القطاع الخاص المملوك للأفراد، إنه القطاع الذي تملكه الأمة. مهام هذا القطاع أوسع بكثير مما نتصوره وإن الأمم من خلاله تستدرك على قصور النظم المختلفة، إنه يشكّل كرة أخرى على طريق العدالة الاجتماعية وإيصال الحقوق لأصحابها. إن أنشطته تغطي حاجات أولئك الناس الذين لا يقع الاهتمام بهم تحت مسؤولية أي وزارة أو مؤسسة حكومية، وإنه يهتم بالقضايا التي لا تهتم بها أي جهة حكومية. وأستطيع أن أقول دون أن أشعر بالحرج: إن اتساع هذا القطاع يدل على نحوٍ قاطع على خيرية المجتمع وتضامنه وفاعليته واستحقاقه باسم (مجتمع). وعلى مقدار ضيق هذا القطاع وضعفه يكون ضعف المجتمع وتفككه وخموله. وقد لا يستحق لاسم (مجتمع) ويكون جديراً باسم (تجمع)!

إن ما ينشر من إحصاءات عن هذا القطاع يدل دلالة واضحة على أن العالم الصناعي يتمتع بمجتمعات غنية بالمؤسسات والأنشطة اللاربحية. وقد استطاع هذا القطاع أن يجمع من الناس في الولايات المتحدة الأمريكية عام (2002) مبلغاً قدره (212) مليار دولار. وهو رقم فلكي لا يمكن جمع نصفه أو ثلثه في أي دولة من العالم. في أمريكا مليون ونصف مؤسسة لاربحية وثلاثة وعشرون ألف مؤسسة وقفية. وفي فرنسا ستمئة ألف مؤسسة لاربحية. وفي (إسرائيل) ثلاثون ألف مؤسسة لا ربحية ويستوعب القطاع اللاربحي 11% من القوة العاملة هناك في العالم الغربي لكل ثلاثمائة شخص تقريباً مؤسسة لاربحية من نوع ما وعندنا في العالم العربي لا يحصل الـ (5000) شخص على أكثر من مؤسسة، أي إن الفارق يتمثل في خمسة عشر ضعفاً. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار إلى جانب هذا أن الذين يحتاجون إلى العون في مجتمعاتنا أكثر بكثير من المحتاجين في مجتمعاتهم.

إن هناك أشياء مشتركة بين الأمم، وهناك أيضاً خصوصيات لكل أمة.

إن المجتمعات الإسلامية بحاجة إلى الكثير الكثير من المؤسسات اللاربحية وسأذكر منها هنا نماذج فقط:

– مؤسسات ومشروعات لدعم الالتزام والمحافظة على الأخلاق والوقوف في وجه التحلل الخلقي عن طريق الاتصال المباشر والحوار مع الناس ووضع لوحات في الطرق وإعلانات في الصحف.

بل إن القطاع اللاربحي يحتاج في الحقيقية إلى فضائية وإذاعات خاصة حتى نؤصل حب العمل الخيري في نفوس الناس. أضف إلى هذا تأسيس جمعيات لمحاربة العادات السيئة مثل الإدمان على التدخين والخمور والمخدرات ومثل عادات الإسراف والتبذير في المأكل والمشرب والملبس والمسكن وإرشاد الناس إلى بعض الطرق الاقتصادية في كل ذلك، كما هو الشأن في كثير من الدول.

– مؤسسات للاهتمام بالأسرة وتوجيهها في مسائل التربية ومساعدتها على حل المشكلات التي تواجهها وتوفير مرشدين تربويين ومرشدات تربويات لإصلاح العلاقات الأسرية وتنمية وعي الناس بأهمية التضامن الأسري، وتوضيح مسؤولية كل طرف في ذلك، ونشر عدد كبير من الكتيبات والنشرات التي تعلم الناس أصول التربية الجيدة، كما توضح لهم الأخطاء التربوية التي يقعون فيها.

– مؤسسات وجمعيات وروابط لدعم العلم والتعليم، حيث إن الدول ما عادت تستطيع توفير ما يكفي من المدارس والتجهيزات المدرسية لهذه الأعداد المتدفقة من الأطفال والفتيان. والتعليم الخاص الحالي هو أقل في كثير من الأحيان من المستوى المطلوب، وهو إلى جانب ذلك ينشر الطبقية الاجتماعية والمعرفية، فأبناء الأغنياء يجدون مدارس ممتازة لأنهم قادرون على الدفع، وأبناء الفقراء لا يجدون في بعض الأحيان حتى المدارس السيئة. وبعض الدول الإسلامية – مثل باكستان- لم تستطع إلى الآن إصدار تشريعات لجعل التعليم الابتدائي إلزامياً بسبب عدم قدرة الدولة على توفير المدارس الكافية. وهناك دول لا تستطيع توفير الكتب المدرسية لأبنائها – كما هو الشأن في بلاد عديدة مثل إندونيسيا – وهكذا..

قد آن الأوان ليقوم الناس بدعم التعليم الحكومي والمساهمة في توجيه أنشطته وممارسة نوع من الرقابة عليه بما يخدم التقدم العلمي في البلد. كما آن الأوان لتأسيس عدد كبير من المدارس الخيرية التي يجد فيها أبناء الفقراء فرصاً للتعلم. وفي بعض الدول – مثل تركيا- أنشئت مجالس كثيرة جداً لدعم التعليم الجامعي وتوفير منح للطلاب الفقراء، حيث إن الجامعات الحكومية لا تستوعب سوى 10% من المحتاجين للتعليم الجامعي.

إن من المهم أن تنظم حملات واسعة من أجل قيام الأثرياء بتأسيس شبكات من المدارس والمعاهد العلمية والتقنية لأبناء الفقراء والمعدمين والإنفاق عليها عوضاً عن تبذير المال في السياحة في الغرب أو إنفاقه على مظاهر كاذبة لا تزيد صاحبها إلا خبالاً وسأماً!.

– في الأمة اليوم مظالم كثيرة، ولا يكاد يخلو مجلس من المجالس من ذكر مظلمة من المظالم! وقد صارت مهمة المحامين في كثير من الدول الإسلامية- مع الأسف الشديد- طمس الحقيقة وإضاعة الحقوق والعمل على تأجيل المحاكمات إلى ما لا نهاية وتسربت الرشوة إلى سلك القضاء مع استثناءات مقدرة! إن هذه الوضعية تستلزم قيام مؤسسات وروابط ومنظمات لنصرة الضعيف ورفع الظلم عن المظلوم ومؤازرة المضطهد وفضح أشكال الحيف. وقد أثنى – صلى الله عليه وسلم- على حلف الفضول الذي أقامته قريش في الجاهلية، وحضره – عليه الصلاة والسلام- وقـال: ” ولو دعيت إلى مثله لأجبت”. وقال أيضاً في حديث صحيح: ” إنه لا قُدَّست أمة لا يأخذ الضعيف حقه فيها غير متعتع”.

إن التعليم والقضاء يشكلان محورين أساسين في حياة أي أمة وإن في فسادهما فساد الحياة كلها، فعلينا أن نصلح من شأنهما قدر الاستطاعة ولن يكون ذلك إلا من خلال توفير رقابة شعبية واسعة، ولن تكون تلك الرقابة فعالة إذا لم تنظم وتؤطر على نحو جيد.

– الأمية في العالم الإسلامي ضاربة أطنابها، ومازال المعدل الوسطي لها يدور في فلك الـ(40%) وهذا شيء مخيف في زماننا فقد احتفلت اليابان بتعليم آخر أمي في أواخر القرن التاسع عشر. ولدينا أناس يعرفون القراءة والكتابة لكنهم لا يقرؤون. وكما قال أحدهم: ما الفرق بين الأمي وبين من يحسن القراءة والكتابة لكنه لا يقرأ؟! إن حالة القراءة وطلب العلم والحرص على معرفة الجديد في حالة من التردي المستمر في عالمنا الإسلامي. والكتاب يفقد في كل يوم جزءاً من أرضه لصالح ما يمكن أن نسميه (اللهو المطلي بالمعرفة) وهذا يلقي علينا مسؤولية هائلة. إني أفترض أن يكون لدينا في كل حي من الأحياء مكتبة عامة يضعها أحد الأثرياء في زاوية من داره ليرتادها أهل الحي وتكون مكاناً لالتقائهم ومناقشة أمور حيهم. وأتعشم أن يكون هناك برامج لدعم الكتاب الجيد وأن يكون هناك من حانات للقراءة ومكتبات متنقلة لنشر العلم وإعارة الكتاب. وقد سبقتنا دول كثيرة إلى هذا، ولم يعد لدينا وقت لإضاعته. إن من غير شغف حقيقي بالعلم واتخاذه أساساً للتطوير لن نستطيع أن نتجاوز الأوضاع الصعبة التي نعيش فيها.

– العولمة تشجع الحكومات على أن تنفض يديها من كل الخدمات المجانية والرخيصة التي تقدمها، ومنها (العلاج الصحي).

والخدمات الصحية الحكومية في كثير من بلدان العالم الإسلامي في حالة من التدهور حيث يلجأ الناس إلى الطب الخاص، وهناك تجد أشكالاً من التحايل والابتزاز مما يوجب قيام مؤسسات طبية لا ربحية يعمل فيها الأخيار من الأطباء وتتقاضى أجوراً تكفي فقط لتشغيلها. وقد قامت تجارب رائدة في بعض البلدان الإسلامية في هذا المجال، إنها تقدم أفضل علاج، لكن بسعر لا يزيد على 30% مما لدى غيرها. إني أتصور أن يكون هناك جمعيات للعناية بأصحاب الأمراض المزمنة والمستعصية وجمعيات لتوفير الدواء لمن لا يجد ثمنه وجمعيات لدعم المستشفيات الحكومية بالأجهزة وهكذا.

ولا أريد هنا أن أتحدث عن قضية الفقر لأنني سأفرد لها حديثاً خاصاً في المستقبل بإذن الله.

إن العمل الخيري التطوعي يستهدف أولاً الارتقاء بنفوس فئة كبيرة من المجتمع وربطهم بالله – تعالى- وهذه الفئة هي العاملون والمحتسبون في المجال اللاربحي. ويستهدف ثانياً سد حاجات العناصر الضعيفة في المجتمع، وهي في عالمنا الإسلامي كثيرة جداً بل تشكل النسبة الأكبر من الناس.

وسنظل نعيش على هامش العالم ما لم نبدع في إيجاد الحلول للمشكلات التي جاءت بها الحضارة المعاصرة .

والله ولي التوفيق.