أكبر الأوهام2

تحدثت في المقال السابق عن أن أكبر الأوهام تلك التي تتجسد في إطار كبير يشكِّل المنطلق للعقل في تفكيره ، كما يشكِّل المرجع حين نريد تحميص فكرة أو حسم خلاف في مسألة من المسائل ، ومن الواضح أن العقل البشري يقوم ببناء الأطر ، ثم يعمد إلى الاستناد إليها في أثناء التفكير وهاتان العمليتان من العمليات المعقدة جداً، ولهذا فإن كثيراً من الأفراد والجماعات والشعوب يقعون في كثير من الأغلاط والأوهام عند بناء الإطار وعند استخدامه والتفاعل معه ، وإليك نموذجين على ذلك :

1ـ التوهم بالتفوق العنصري : ساد اعتقاد لدى كثير من الأوربيين في العقود الماضية بتفوق العرق الآري على غيره ، كما أن لدى كثير من الألمان اعتقاداً راسخاً بتفوقهم على باقي الأوربيين ، مما جعلهم ينظرون إلى غيرهم نظرة استخفاف ، ولم ننس بعدُ الزوبعة التي أثارها تصريح قريب لأحد السياسيين الألمان حين ذكر أن وجود المسلمين في ألمانيا أدى إلى انخفاض نسبة الذكاء …. إن منشأ الوهم في هذا ينبع من الخلط بين الطبيعة والثقافة ، أو بين الموروث الجيني والمكتَسَب الثقافي ، حيث يؤكد العلم كل يوم أن الخالق ـ عز وجل ـ وزَّع الذكاء على الأمم بالتساوي ، فليس هناك شعب ذكي وشعب غبي ، ولكنه وزع الذكاء على الأفراد بالتفاوت ، ولهذا فإن نجاح اليابانيين ـ مثلاً ـ ليس مديناً لما لديهم من ذكاء أو موروثات جينية عن الآباء والأجداد ، وإنما هو مدين للتعليم والتربية والتثقيف ، والبيئة الجيدة . لو ولد ألماني أو ياباني في البادية ، وعهد به أبواه إلى راعي غنم كي يقوم على تربيته، فإن ذلك الطفل لن يكون في المستقبل إلا كأبيه الذي رباه ، أي راعي غنم ، وإن نظرية ( الذكاءات المتعددة ) قد كسرت حدة تصنيف الناس إلى أذكياء وأغبياء ، حيث يمكن للشخص الواحد أن يكون متفوقاً جداً في الذكاء اللغوي أو العاطفي، وأن يكون في الوقت نفسه دون الوسط في الذكاء الرياضي أو المكاني ….

2 ـ التعامل مع المظنون على أنه قطعي :

كيفية التعامل مع الحقائق هو الامتحان الأكبر الذي كان على العقل البشري أن ينجح فيه عبر التاريخ ، فنحن مولَعون أشد الولع بتحويل الظنيات إلى قطعيات ، وتحويل ما هو محل نقاش إلى ثوابت ومسلَّمات ، ولعل هذا من جملة ( الاقتصاد في الجهد ) الذي فطر الله عليه بني الإنسان ، فالتعامل مع المظنونات يتطلب النقاش والاستدلال والترجيح على حين أن التعامل مع القطعيات لا يتطلب سوى التسليم ثم البناء على ما سلَّمنا به . وهذه المشكلة ليست مشكلة عربية أو إسلامية ، إنها مشكلة الإنسان أينما كان حين يحاول بناء أطر ومرتكزات للتفكير واكتشاف الذات والعالم ، خذ على سبيل المثال اعتزاز أتباع المذاهب بأقوال أئمتهم ، حيث إنك ترى الواحد منهم يطيل في الجدال والدفاع عن الحكم الذي يعتقده، ويرفض أقوال الأئمة الآخرين رفضاً قاطعاً ، ولو أدى ذلك إلى انقسام أهل المسجد أو أهل البلد ، مع أن الأئمة العظام يعرفون أن أهل السنة والجماعة يختلفون في الفروع ، وينظرون إلى الخلاف فيها برفق وإعذار وسماحة ، ورحم الله الإمام مالكاً صاحب المذهب الذي كان يردد حين يفتي في بعض المسائل قول الله ـ تعالى ـ : (( إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين )) . وقديماً عتب الإمام الجويني في كتابه ( الغياثي ) على الماوردي في كتابه ( الأحكام السلطانية ) حيث لاحظ أن الماوردي يسوق المظنونات في مجال السياسة الشرعية مساق المعلومات أو القطعيات مع أن النصوص في شؤون السياسة والحكم قليلة ، حيث إن من الواضح أن الشريعة الغراء لم تحدد شكلاً معيناً للحكم وممارسة السلطة ، وإنما شددت على مبادئ العدل والنزاهة في الحكم والشورى ومبادئ أخرى من هذا القبيل .

وتجد المشكلة نفسها عند الليبراليين والاشتراكيين والبنيويين والتفكيكيين … إنها تحويل إنجازات العقل المتنازع فيها إلى أسس وركائز وأطر تستعلي على النقاش والمراجعة .

لاشك أن هناك مسلمات عقدية وفكرية ، ولا شك في أن في كل علم من العلوم قواعد وأسساً قطعية هي موضع إجماع وتسليم ، لكن المشكل هنا هو ذلك السعي الحثيث من لدن الجميع إلى توسيع دوائر المسلَّمات والتشنيع على من يستنكر ذلك .. العقل البشري مرتبك في بناء المعقول واللامعقول ومرتبك في التفريق بينهما، كما أنه مرتبك في تحديد ماهو من قبيل الأصول والفروع والقطعي والظني ورسم المنطقة البرزخية التي تفصل بين كل ذلك، ولكنه يرفض الاعتراف بذلك ، وهذه إحدى مشكلاته الكبرى

د . عبد الكريم بكار

في 22/ 1 / 1432