امتحان الثقافات

لا نعني هنا بالثقافة المعلومات والمعارف التي تكون في حوزة شخص من الأشخاص أو أمة من الأمم, وإنما نعني ذلك الكل المركَّب من العقائد والأفكار والمعارف والنظم والأخلاق والعادات والتقاليد السائدة في بيئة محددة. الثقافة بهذا المعنى تعني الذات المعنوية للأمة, وهي أداة استيعاب الوجود والنظر إلى الذات والآخر, وأداة مواجهة المشكلات والهيكل المعنوي الذي يتلقى الصدمات القادمة من الداخل والخارج…

الثقافة بوصفها أداة للفهم والعمل وتنظيم ردود الأفعال و بوصفها أداة لمقاومة العدوان الثقافي الخارجي – تظل في امتحان دائم, وعليها دائماً أن تنجح فيه, وإلا أصيبت بالعطب, أو فقدت جزءاً من حيويتها, والأمثلة التي يمكن أن نشرح من خلالها هذه الحقيقة كثيرة للغاية, أكتفى منها هنا بثلاثة أمثلة:

1-  إدارة الاختلاف:

لدى كل الثقافات محرمات وخطوط حمراء لا يصح تجاوزها, ولديها أيضاً مساحات خضراء تسمح بالتنوع والاختلاف والحركة… إذن لا تظهر الثقافة في مدى ما فيها من اختلاف واتفاق وإنما في طريقة تعاملها مع الاختلاف, وهذه نقطة مفصلية في تباين الثقافات, فالثقافة الناضجة تتعامل مع الاختلافات بعقلانية ولغة مهذبة, وتعتمد الوعي والحوار والتربية أساساً للتخلص من الأقوال الشاذة والأفكار الفجة, أما الثقافة التي لم تبلغ درجة النضج المطلوب, فإنها تعتمد في حسم الخلاف على استخدام القوة وسنَّ المزيد من القوانين, كما أن لغة  المختلفين تكون متشنجة وبعيدة عن الموضوعية. وأعتقد أن الذي يتأمل فما كتب من تعليقات على الفتاوى المتأخرة في الصحف وعلى (النت) لا يشك بأن ما نتحدث به خلال عقدين من الزمان عن أسباب الاختلاف وعن التعددية – ما يزال عبارة عن قشرة ثقافية هشة, لا تسمن ولاتغني من جوع!

2-  التعامل مع المشكلات:

ليس هناك مجتمع ليس فيه مشكلات, والثقافة هي التي تحدد حجم المشكلات السائدة, وعلى نحو عام تكون حساسية أصحاب الثقافات المتحضرة تجاه المشكلات أشد, حتى إن ما يعد شيئاً هيناً وطبيعياً في نظر أصحاب الثقافات المتخلفة، يُعد في نظر الفريق الأول شيئا خطيراً، ولا يمكن احتماله. حين يواجه أصحاب ثقافة ناضجة مشكلة كضعف الإلتزام او التضمامن الأهلي أو الاستبداد أو مشكلة مثل البطالة أو ندرة المياه.. فإن إدراكهم لحجم المشكلة يتم عن طريق التخمين والتأمل، وأما أدواتهم في المواجهة فإنها تقوم على الشكوى والحسرة والاحتيال والوعظ والخروج عن القانون.. أما أصحاب الثقافات المتقدمة فإن مساعيهم لتوصيف المشكلة تقوم على الإحصاء والاستقراء والمقارنة، وحين يريدون علاجها، فإنهم يعملون على تحديد أسباب المشكلة وتحليلها، كما يعملون على مراقبة تطوراتها، ثم يتعاملون معها عن طريق طرح الكثير من المبادرات الصغيرة لعلمهم أن المشكلات الحضارية ترتدي برداء التعقيد، وتحتاج إلى حلول مركََبة. وحين تكون الأمة في وضعية انتقالية، فإنها تحاول أن تقلد أصحاب الثقافة الناضجة، وتحقق في العادة نجاحات متواضعة.

 

3- استثمار الوقت:

هذه الساعات التي تمر علينا هي عبارة عن امتحان كبير لنا، ومن الواضح أن أصحاب الثقافة المتخلفة ينظرون إلى الوقت على أنه عبء، وليس فرصة، ولهذا فإنهم يتفننون في قتله والتخلص منه، ويظهر هذا واضحاً في حال شغلهم وحال فراغهم، أما في حال شغلهم، فإن كفاءة استفادتهم من الوقت تكون متدنية،حيث قد أفادت إحدى الدراسات أن العطاء الحقيقي للموظف في إحدى الدول العربية لا يزيد على نصف ساعة في اليوم! أما في حالة فراغهم، فإنهم ينزعون إلى الثرثرة الفارغة والجلوس أمام التلفاز..!

 

أما ابناء الثقافة المتقدمة، فإنهم ينظرون إلى الوقت على أنه عنصر من أهم عناصر الإنتاج والإنجاز، ولهذا فإنهم يتعاملون معه بدقة تصل إلى جزء من الثانية، ويتلقون الدورات التدريبية التي تساعدهم على تقليل الأوقات المهدورة. أما الفراغ فإنهم يستخدمونه في الاستجمام وممارسة الهوايات  والقيام بالأعمال المهمة التي لم يستطيعوا إنجازها في أوقات الدوام الرسمي.

ستظل كيفية تعامل الأمم مع الوقت مقياساً من أهم مقاييس الارتقاء الحضاري. فما تصنيفك لثقافتنا السائدة يا ترى؟

والله الموفق..

 

د. عبد الكريم بكار

20/7/1431