النمط العزيز

شيئان جوهريّان يسيطران على تفكيري وتأمّلي، هما التوازن والتكامل.

1- التكامل يعني: القبض على رؤية عميقة وشاملة لكل الأشياء التي يجب أن نراها، وبالطريقة التي يجب أن تُرى بها تلك الأشياء. أما التوازن فيعني إعطاء جوانب الحياة وجوانب الشخصية على -وجه الخصوص- حقها من الرعاية والتنمية والاهتمام من غير إفراط في جانب على حساب جانب آخر.

وربما أمكننا القول: إن امتلاكنا لرؤية حسنة لنوعية التكامل المطلوب هي التي تتحكم في نهاية الأمر بشكل التوازن الذي نسعى إليه. كما أن من الممكن القول: إن عناصر الصورة الذهنية عن (التكامل) قد تختلف من شخص إلى آخر.

وقد ينحو بعضها نحو التغيّر، كما ينحو بعضها الآخر نحو الثبات، في الدائرة الإسلامية نمط من الناس يُتّهم بصفاء روحه ونقاء نفسه، ومستوى تعبده –على مقدار خبرته- جيد، ولديه طيبة، تتصل في بعض الأحيان بطرف من الغفلة التي تصل إلى حد السذاجة، وكثير من هؤلاء – إن لم نقل أكثرهم- يأخذون عن عابد أو جماعة تقاليد وطرقًا في التعبد، ويحفظون عن ظهر قلب مقولات، يسيرون في ظلال دلالاتها وكأنها مفردات دستور، لا يمكن إدخال أي تعديل على أية مادة من مواده.
ومشكلتهم أنهم كثيرًا ما يفقدون التوازن، ونصاب الحد الأدنى من التوزيع لاهتماماتهم وأنشطتهم. وينظرون إلى الأقوال المأثورة عن شيوخهم وأسلافهم على أنها أدوات لفهم كل الأوضاع والتعامل مع تحديات كل القصور.
ويميل هذا النمط من عباد الله إلى العزلة الشعورية، ويجدون حالات عظيمة من انشراح الصدر وبرْد اليقين، ويملكون طاقة هائلة على البذل والإصرار على الدعوة إلى ما يشعرون أنهم ظفروا به, وتتسم معاملاتهم بالنعومة واللطف، ويميلون إلى حسن الظن، رؤيتهم للواقع عتيقة، ونظرتهم للمستقبل قاصرة ومشوشة، وبينهم وبين التحليل والتفلسف ما يشبه العداوة، لكن لديهم روح متفائلة، وكثيرًا ما تكون تطلّعاتهم محدودة، والتدقيق في صفاء العقيدة وصحّة التصورات، لا يشكّل لديهم هاجسًا، ومعظم هؤلاء عاديون في أعمالهم وإنجازاتهم؛ والناجحون فيهم قليلون كما أن المحقّقين منهم ليسوا كثيرين.
في الدائرة الإسلامية نمط ثانٍ من الناس يقف في الجهة المقابلة للنمط الأول مع وجود الكثير من الأشياء المشتركة بينهما. هذا النمط يحرص حرصًا شديدًا على استقامة تفكيره، ويكثر من النقاش حول ما يعتقد أنه يشكل انحرافًا عن المنهج القويم، يتحدثون باستمرار عن المهم والمهم جدًا، والخطير والخطير جدًا، ويفرقون في تناول التفاصيل المتعلقة بالأمة وبالشأن العام.

كثيرون من هؤلاء فتحوا على أنفسهم بابًا عريضًا من ممارسة النقد، إنهم يتحدثون باستمرار عن المصائب والويلات التي حلّت بالأمة، ويكثرون من المقارنة بين ما لدينا، وما لدى الآخرين، وتكون النتيجة في الغالب لصالح الأمم الأخرى، ولاسيما الغربية منها وكثير من أفراد هذا النمط ناجحون في أعمالهم على نحو مقبول، وهذا يشجعهم على أن يقترحوا على غيرهم المشروعات، ويدلّوهم على طرق للارتقاء وآليات للتقدم، يشغلهم المستقبل عن كل شيء وطموحاتهم كبيرة وأحلامهم عريضة.

من أكبر همومهم فهْمُ الأمور التي تجعل الناس يعيشون حياتهم وفق تعليمات دينهم، لكن هذا النمط كثيرًا ما يشكو من برودة الروح وخمود الانفعالات، وهو مع حرصه على استبانه الوجهة وتحديد المسار إلا أنه لا يهتم كثيرًا بتوليد (الطاقة) المطلوبة للمضيّ بهمة وعزيمة إلى آخر الطريق، عباداتهم كثيرًا ما تكون عند الحد الأدنى، وبعدهم عن الشُبه ليس بالكبير.

وكثيرًا ما يعانون من تمزّقات داخلية بسبب المسافة الكبيرة التي تفصل بين وعيهم ودرجة تألّق إيمانهم، هذان النمطان رئيسيان في الجماهير الملتزمة وهناك أنماط فرعية تتشعب من كل واحد منهما.
في الدائرة الإسلامية نمط ثالث يمكن أن نسميه (النمط العزيز) إنه عزيز –نسبيًا- في وجوده، وعزيز أيضًا على قلوبنا. هذا النمط جمع ثلاث صفات أساسية، هي الوعي العميق، والإيمان الراسخ، والنجاح الباهر. وهذا شرح موجز لهذه الصفات.
يمتاز هذا النمط بالأصالة الخلقية، حيث السجايا الحميدة عميقة الجذور في النفس، وتجسّدها في السلوك يتم بطريقة عفوية ومستمرة، وهو مكين التدين، والإيمان لديه يتجاوز صفاء المعتقد إلى الحيوية والتألّق، إن أفراد هذا النمط يعملون وفق (ربي وعبدك) إن الواحد منهم في نهاره يراقب الله في عمله وجميع أنشطته، هذا العمل يرضي ربي، وهذا العمل يقربني من ربي، هذا العمل لا يرضى عنه ربي إن صلته بالله –تعالى- توجّه حركته، وتصوغ مواقفه وعلاقاته، ومن تلك الصلة القدسيّة يستمد الطاقة على العمل وعلى الصمود في وجه المغريات، أما في ليله فكثيرًا ما يردّد: عبدك بحاجة إليك. عبدك راجٍ لفضلك. عبدك خائف منك. عبدك عبدك….

 
2 – رسالة هذا النمط في الحياة واضحة إنها العيش للإسلام وبالإسلام. من يُنسب إلى هذا النمط يعتقد أن لكل امرئ دينين: ديناً معلناً ظاهر يمنحه نوعًا من التميّز والانتماء الشكلي، وديناً حقيقياً، ودين المرء الحقيقي هو الدين الذي يكرّس حياته من أجله.
يقرأ هذا النمط الماضي لإصلاح الحاضر، ويتخذ من معطيات الحاضر وقودًا لبلوغ الأهداف العظمى، التفكير لديه إستراتيجي، والرؤية واضحة، وهو مع ميله للإيجابية، وتشبّعه بروح الرجاء يدرك أعباء المرحلة، ويعرف العلامات الدالة على الطرق المسدودة، يجد معرفته ومفاهيمه، ويتهم نفسه، ويمتلك القدرة على السماع والاقتباس.

 
3 – هذا النمط ناجح في عمله، متفوق في أدائه، يقدم القدوة والنموذج في الكثير من جوانب شخصياته وسلوكاته. إن لديه إدراكًا عميقًا، بالحاجة إلى تحقيق النجاح الباهر؛ حيث مضى زمان الأشياء العادية، وحيث تتطلب الديون المتأخرة على الأمة مضاعفة الإنتاج وبذل المزيد من الجهد.
هذا النمط جمع –باختصار- بين القوة والأمانة، كما قالت ابنة شعيب: (يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين).
ينتسب هذا الطراز من الرجال إلى الإمام الكبير عمر بن الخطاب –رضي الله عنه- ويحاول باستمرار إحياء خطّه وبعث مسيرته.
وإني لأرجو أن نعمق دراستنا المستقبلية حول هذا النمط، كما أرجو أن نجعل الدخول إلى عالمه شيئًا موضع تطلّع وتشوّق، إنه نمط آسر، ويثير الإعجاب، ولـمَ لا، وقد اجتمع فيه أفضل ما تفرق في غيره؟!