تآكل الاهتمامات (2) ( من الطبيعي إلى الصناعي )

تحدثت في المقال السابق عن تآكل الاهتمامات وتغير الطموحات، وكيف أنه تابع لنقص وعي الناس بما هم عليه الآن، وبما ينبغي أن يصيروا

إليه، كما أنه تابع للمعطيات والمؤثرات المحيطة بهم، ووعدت آنذاك بتوضيح ما علينا القيام به من مواجهة الاستنزاف الحاصل الآن في العديد

من الأمور العزيزة .

واليوم أحاول إنجاز ما وعدت به، وإن الذي أود أن يكون واضحاً من البداية، هو أنه على مدار التاريخ كانت الأمم التي تقود الحضارة هي التي

تضع شروط العيش للآخرين ممن يستهلك منتجات الحضارة، ويستخدم تقنياتها، وهكذا فإن طموحات معظم المسلمين وتطلعاتهم واهتماماتهم يتم

تشكيلها في مصانع الدول المتقدمة ومؤسساتها الحضارية.

هذه الحقيقة مؤلمة للغاية، ومرفوضة من قبل البعض بسبب ما تقرره من حتمية تبعية الدول والشعوب النامية للدول الصناعية الكبرى، لكن  من الصواب دائماً الاعتراف بالواقع؛ إذ هو الخطوة الأولى على طريق معالجته؛ وإن مشكلة كثير من الصفوة وأهل الغيرة أنهم يقيسون أحوال عامة الناس ـ والذين يشكلون التيار العريض في المجتمع ـ على أحوالهم، فيحرمون أنفسهم من رؤية الأمور على ما هي عليه.

السؤال الآن :

ما الذي علينا أن نفعله تجاه ذلك؟

1ـ إن التاريخ يدلنا على أن ردّ فعلنا على الأحداث والتحوّلات كان في الغالب محصوراً في النصح والتحذير وبيان الأحكام، وكان الأمر فعلاً كما قال أحدهم : لو عرضتَ مسألة من المسائل على الشيخ عبد العزيز بن باز ـ رحمه الله ـ لأصدر فيها فتوى، وإذا عرضتَها على أبي الحسن الندوي ـ رحمه الله ـ لألقى فيها محاضرة، ولو عرضتها على أبي الأعلى المودودي رحمه الله ـ لألَّف فيها رسالة، ونحن سنظل في حاجة إلى الفتوى والمحاضرة والكتاب.

لكن علينا أن ندرك أنها بمفردها غير كافية لإيقاف تدهور بعض القيم، وتغير وجهة الأولويات والاهتمامات العامة، بل لا بد معها من وجود المؤسسة، والمشروع والبرنامج، والضغط الأدبي من أجل تغيير النظم والقوانين، وإعادة ترتيب الشأن الاقتصادي العام، وإصلاح الوضع الإداري….

2 ـ قالوا :(ليس التكحّل في العينين كالكََحَل) أي لا يكون الشيء الصناعي في جمال الشيء الطبيعي، ولا في منطقيّته واستمراره، وهكذا فنحن إذ نحاول ترسيخ بعض القيم وإعادة الاهتمام ببعض الأمور، نسبح في الحقيقة ضد التيار، أو نحن نحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهذا لأننا في محاولاتنا هذه ندفع بعض ضرائب التخلف الذي ابتلينا به منذ قرون، ولهذا فإن نجاحنا سيظل نسبياً، إلى أن نصبح في عربة قيادة الأمم، ونبدأ بتشكيل اهتماماتنا باستقلال واهتمامات غيرنا بجدارة واقتدار، ووضوح هذه الحقيقة  مهم.

3- لافائدة من الحديث العائم عن تغير أخلاق الناس من غير فهم دقيق لما يجري في الواقع، وإني بهذه المناسبة أود أن أبوح بشيء يتردّد في صدري منذ زمن بعيد، وهو أن لدينا ملايين الشباب المسلم الطيب والواعي، وهؤلاء الشباب مؤهلون للقيام بالكثير من الأعمال الجليلة، لكن عدم وجود من يقوم بتوجيههم لما يجب أن يقوموا به، وعدم وجود أطر عملية كافية يمكن أن ينخرطوا فيها… جعلهم يعانون من عطالة مفزعة، وكان حرمان الأمة من عطاءاتهم هائلاً، ولهذا فأنا أدعو أولئك الذين يعدون مصلحتهم الشخصية هي نفس مصلحة أمتهم وبلادهم أن يأخذوا زمام المبادرة، ويبدؤوا بالعمل الجاد في مختلف المجالات من أجل الحد من الانهيارات الأخلاقية المتتابعة لدى كثير من الناس.

ولعل إنشاء وحدات بحثية ومسحية مصغرة لرصد التطوّرات والتحوّلات الجارية في واقعنا المعيشي  من أهم ما ينبغي القيام به؛ وعلى سبيل المثال فإننا بحاجة إلى من يرصد في بلده :

ـ مدى محافظة الناس على الشعائر الظاهرة، مثل المحافظة على صلاة الجماعة في المسجد والتزام النساء بالحجاب وإلقاء السلام…

ـ مدى غيرة الناس على حرمات الله ومدى اندفاعهم نحو إنكار المنكرومحاصرة الشرور.

ـ التواصل الاجتماعي و محافظة الناس على المرافق العامة.

ـ أداء الحقوق لأصحابها ومناصرة المظلوم واستقلال القضاء.

ـ نزاهة السلوك المالي ومحاربة الفساد الإداري.

ـ اهتمام الناس بتعليم أبنائهم وتواصلهم مع المدارس.

ـ التماسك الأسري و استمرارية الحياة الزوجية.

ـ العمل والبطالة والاستقرار المادي للأسر والأفراد.

ـ أداء المؤسسات التعليمية و مدى جودة التعليم الذي تقدمه.

هذه الأمور، وأمورأخرى كثيرة تُعدّ جوهرية في حياة الأمة ومعرفة التطورات الإيجابية والسلبية التي تطرأ عليها- مهمة للغاية، وإننا حتى نحصل عليها نحتاج في كل دولة إلى عشرات المؤسسات اللاربحية المتخصصة، وإن قيامها مرهون بقيام 1% من الشباب المسلم الحريص على خدمة دينه وبلده، بتقديم ساعة واحدة في اليوم لصالح ما أشرت إليه من رصد للتحوّلات الجارية بطريقة منهجية و احترافية.

إن كل مشكلة توصَّف توصيفاً جيداً هي مشكلة محلولة جزئياً، وإن توصيف ما يجري فعلاً في الحياة العامة صعب للغاية، ويتطلب من المعرفة و الدراية مثل ما يتطلبه حل المشكلات المعضلة؛ ونحن نعرف أن تشخيص علل الجسد لا يقل أهمية عن علاجها.

للحديث صلة.